المقدمة:
في خريطة العالم العربي، لا تزال الملكيات تشكل جزءًا أصيلًا من المشهد السياسي، تتوزع بين ممالك وإمارات وسلطنات، لكل منها طابعها الخاص وسياقها التاريخي المميز. ورغم ما يبدو من تشابه في الألقاب والطقوس، إلا أن الأنظمة الملكية في هذه الدول تختلف في عمقها، بين سلطات مطلقة وأخرى مختلطة تسعى نحو التوازن بين العرش والحكومة.
من الخليج العربي إلى شمال إفريقيا، تمتد سلالات حكم تعود جذورها إلى قرون مضت، تمكنت من الحفاظ على استمراريتها وسط تحولات إقليمية وعالمية كبرى. بعضها تطور باتجاه المشاركة السياسية والبرلمانية، بينما ظل البعض الآخر متمسكًا بنموذج الحكم التقليدي القائم على المركزية والشرعية الدينية أو القبلية.
في هذا الملف، نأخذكم في جولة عبر 8 دول عربية تحتفظ بالنظام الملكي، لنكتشف طبيعة الحكم فيها، من يتولى السلطة الفعلية، وما جذور هذه الأنظمة التي لا تزال تلعب دورًا محوريًا في رسم ملامح العالم العربي الحديث.
🇧🇭 البحرين – ملكية مختلطة تحمل بصمة التحديث والولاء
البحرين، تلك الجزيرة الصغيرة في الخليج العربي، تحمل بين جنباتها نظامًا ملكيًا دستوريًا مختلطًا، تتقاطع فيه رمزية العرش مع أدوار المؤسسات الحكومية. يرأس الدولة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، وهو سليل عائلة حكمت البحرين منذ القرن الثامن عشر، حين استقر آل خليفة فيها قادمين من الزبارة بقطر.
شهد النظام السياسي البحريني تحولات بارزة، أبرزها عام 2002، عندما أعلن الملك البحريني تحويل الدولة من إمارة إلى مملكة دستورية، تبعها إصدار ميثاق العمل الوطني ودستور جديد، منح بعض الصلاحيات للبرلمان وأضفى طابعًا مؤسسيًا على الحكم. ومع ذلك، تبقى السلطة التنفيذية الفعلية في يد الملك، ويُعيَّن رئيس الوزراء مباشرة من قِبله، وهو الذي يقود الحكومة ويشرف على السياسات اليومية.
البحرين تمثل نموذجًا لمحاولة التوفيق بين الإرث الملكي التقليدي وتطلعات الإصلاح السياسي، في ظل واقع إقليمي معقد وتوازنات داخلية دقيقة.
🇯🇴 الأردن – ملكية هاشمية تستمد شرعيتها من التاريخ والدين
في قلب المشرق العربي، يقف الأردن كنموذج لملكية دستورية مختلطة يقودها العرش الهاشمي، أحد أقدم وأعرق السلالات الحاكمة في العالم العربي. يتولى الحكم اليوم الملك عبد الله الثاني، سليل الملك عبد الله الأول، مؤسس الدولة الحديثة بعد الثورة العربية الكبرى، والذي تولّى إمارة شرق الأردن عام 1921 ثم أصبح ملكًا بعد استقلال البلاد عام 1946.
رغم أن الأردن يعتمد نظامًا برلمانيًا، إلا أن السلطات الدستورية الأوسع تظل في يد الملك، الذي يُعيِّن رئيس الوزراء ويملك صلاحية حل البرلمان والمصادقة على القوانين. يُنظَر إلى الملك عبد الله الثاني كشخصية محورية في السياسة الإقليمية، تجمع بين القيادة التقليدية والانفتاح على الإصلاح.
عرفت المملكة الأردنية فترات من الحراك السياسي والمطالبات بالإصلاح، لكنها نجحت في الحفاظ على استقرارها بفضل الشرعية التاريخية والدينية للعائلة المالكة، التي تنتسب مباشرة إلى نسل النبي محمد، وهو ما يعزز مكانة النظام داخليًا وخارجيًا.
🇰🇼 الكويت – ديمقراطية نسبية في ظل إمارة دستورية
الكويت، رغم صغر مساحتها، تملك واحدة من أكثر الأنظمة السياسية حيوية في الخليج، حيث تتقاطع الملكية الدستورية مع برلمان منتخب يُعَدّ من الأقدم في المنطقة. على رأس الدولة يقف الأمير نواف الأحمد الجابر الصباح، الذي ينتمي إلى آل الصباح، العائلة التي تتولى الحكم منذ عام 1752.
يُمنح الأمير سلطات دستورية واسعة، منها تعيين رئيس الوزراء واعتماد الحكومة، إلا أن البرلمان الكويتي (مجلس الأمة) يتمتع بصلاحيات فعلية، تشمل مساءلة الوزراء وحتى الأمير في بعض القضايا. هذه الصيغة السياسية الفريدة جعلت من الكويت واحة سياسية نسبية في الخليج، لكنها أيضًا أفرزت أزمات متكررة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، أدت مرارًا إلى حل البرلمان وتعليق العمل السياسي.
رغم التحديات، يُنظر إلى التجربة الكويتية كخطوة متقدمة نحو المشاركة الشعبية، في إطار نظام إماري يحتفظ بإرثه العريق واستقراره الداخلي.
🇲🇦 المغرب – ملكية عريقة بوجه ديني وسياسي مزدوج
المغرب يُعد من أقدم الملكيات المستمرة في العالم، حيث تعود أصول العائلة العلوية الحاكمة إلى القرن السابع عشر، وتستمد شرعيتها من النسب النبوي الشريف، وهو ما منح الملك صفة “أمير المؤمنين”، الجامع بين السلطتين الدينية والسياسية.
يرأس الدولة اليوم الملك محمد السادس، الذي تولّى الحكم عام 1999 بعد وفاة والده الملك الحسن الثاني. ورغم أن المغرب يُصنّف كـملكية دستورية مختلطة، إلا أن الواقع السياسي يُظهر تركّزًا كبيرًا للسلطة في يد الملك، الذي يُعيِّن رئيس الحكومة من الحزب الفائز في الانتخابات، ويحتفظ بصلاحيات واسعة في المجالات الأمنية والدينية والعسكرية.
شهدت البلاد تحولات مهمة منذ دستور 2011 الذي أُقرّ بعد حراك “20 فبراير”، حيث تم تعزيز بعض الصلاحيات التشريعية للحكومة والبرلمان، لكن الملك لا يزال يتمتع بموقع محوري في إدارة الدولة، كضامن لوحدة البلاد واستقرارها، وفاعل مباشر في القرارات الكبرى داخليًا وخارجيًا.
🇴🇲 عُمان – ملكية مطلقة بهدوء دبلوماسي وجذور ضاربة في التاريخ
سلطنة عُمان تمثل حالة فريدة بين الملكيات الخليجية، تجمع بين الاستقرار العميق والانفراد بالقرار في إطار ملكية مطلقة يُمارس فيها السلطان كامل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. يقود البلاد حاليًا السلطان هيثم بن طارق، الذي تولّى الحكم في يناير 2020 بعد وفاة السلطان قابوس بن سعيد، أطول الحكام العرب بقاءً في الحكم وأبرز من أعاد رسم ملامح عمان الحديثة.
ترجع أصول الحكم في عُمان إلى آل بوسعيد الذين بسطوا سيطرتهم على البلاد منذ عام 1744، مؤسسين واحدة من أعرق السلالات الحاكمة في الجزيرة العربية. لا يوجد في عمان برلمان منتخب كامل الصلاحيات، بل مجلس شورى يُنتخب جزئيًا وله دور استشاري، بينما يبقى السلطان هو صاحب الكلمة العليا في جميع القرارات.
رغم الطبيعة المطلقة للحكم، عُرفت عمان بنهجها الدبلوماسي المتزن، وسياستها الخارجية الحيادية، فضلًا عن تفردها في الحفاظ على توازن داخلي دون اللجوء إلى الأساليب القمعية التي شهدتها بعض الدول في المنطقة.
🇶🇦 قطر – إمارة صاعدة تجمع بين الحكم المطلق والانفتاح المؤسسي
رغم صغر مساحتها الجغرافية، تُعد قطر من أبرز النماذج الخليجية التي تسير بخطى سريعة نحو ترسيخ مكانتها الإقليمية والدولية. يقود الدولة اليوم الأمير تميم بن حمد آل ثاني، الذي تولّى الحكم عام 2013 خلفًا لوالده الشيخ حمد بن خليفة، في خطوة غير مألوفة تمثلت في تنازل سلمي عن العرش.
تُصنف قطر كـملكية مختلطة، حيث يتركّز معظم السلطات بيد الأمير، لكنه يعين رئيسًا للوزراء يتولى مسؤولية إدارة شؤون الحكومة. ورغم عدم وجود برلمان منتخب يتمتع بصلاحيات تشريعية كاملة، فإن الدولة خطت خطوات متقدمة نحو تأسيس مؤسسات حديثة، مثل مجلس الشورى الذي تم انتخاب جزء من أعضائه للمرة الأولى عام 2021.
تنتمي عائلة آل ثاني إلى واحدة من أقدم الأسر القطرية، وتولّت الحكم منذ القرن التاسع عشر. ويمثل النظام السياسي اليوم مزيجًا من الولاء القبلي، الشرعية الدينية، والرؤية الاقتصادية الطموحة التي وضعت قطر في صدارة المشهد العالمي، خاصة مع استضافتها لكأس العالم 2022.
🇸🇦 السعودية – ملكية مطلقة تتقاطع فيها الشريعة مع التحديث السريع
المملكة العربية السعودية تُعدّ من أكثر الملكيات تأثيرًا في العالم العربي والإسلامي، ليس فقط بسبب ثقلها الاقتصادي والسياسي، بل أيضًا لمكانتها الدينية كونها حاضنة الحرمين الشريفين. يقود البلاد اليوم الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، فيما يتولى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان منصب رئيس الوزراء، وهو ما يعكس إعادة ترتيب مراكز القوة داخل الحكم.
النظام السياسي السعودي يقوم على الملكية المطلقة، حيث تتركز السلطات كافة في يد الملك، المستند إلى الشرعية الدينية من خلال تطبيق الشريعة الإسلامية، والشرعية التاريخية لعائلة آل سعود التي أسست المملكة عام 1932 على يد الملك عبد العزيز.
ورغم أن السعودية لا تعتمد على دستور مكتوب، إلا أن “القرآن والسنة” يُعدان مرجعية الحكم، بينما تُنظم القوانين من خلال مراسيم ملكية. وقد شهدت السنوات الأخيرة تحولات جذرية ضمن رؤية 2030، شملت إصلاحات اجتماعية واقتصادية كبرى، فتحت أبوابًا جديدة أمام المرأة، والاستثمار، والسياحة، مع بقاء السلطة السياسية مركزية ومحكمة بيد العائلة المالكة.
🇦🇪 الإمارات – اتحاد ملكي بصيغة فدرالية استثنائية
دولة الإمارات العربية المتحدة تمثل نموذجًا فريدًا في العالم العربي، حيث يجتمع النظام الملكي التقليدي مع البنية الفدرالية الحديثة، في توليفة جمعت سبع إمارات تحت راية واحدة منذ إعلان الاتحاد عام 1971. يتولى رئاسة الدولة اليوم الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حاكم أبوظبي، بينما يشغل الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حاكم دبي، منصب رئيس مجلس الوزراء ونائب رئيس الدولة.
النظام السياسي الإماراتي يقوم على مجلس أعلى للاتحاد، يضم حكام الإمارات السبع، وهو أعلى سلطة دستورية وتشريعية وتنفيذية. ويُنتخب رئيس الدولة ونائبه من بين الأعضاء، ما يجعل من الإمارات اتحادًا ملكيًا جماعيًا يتمتع فيه كل حاكم بصلاحيات واسعة داخل إمارته، مع التنسيق على مستوى الدولة عبر المؤسسات الاتحادية.
ورغم أن الإمارات ليست ملكية مطلقة أو مختلطة بالمعنى التقليدي، فإنها حافظت على الطابع الوراثي للحكم في كل إمارة، مع تبنّي سياسات منفتحة في الاقتصاد والتعليم والتكنولوجيا، جعلت منها واحدة من أكثر الدول العربية تقدمًا ونفوذًا.
الخاتمة…
تُظهر الملكيات العربية تنوعًا لافتًا في بنيتها السياسية، لكنها تتقاطع جميعًا عند نقطة مركزية: الحفاظ على الاستقرار والشرعية التاريخية في مواجهة التحديات المتسارعة. وبين أنظمة مطلقة ومختلطة وفيدرالية، تتوزع السلطات بدرجات متفاوتة، لكن يبقى الملك أو الأمير أو السلطان هو حجر الأساس في هندسة القرار السياسي.
من السعودية ذات الثقل الديني والاقتصادي، إلى المغرب المتجذر في التاريخ، ومن الكويت ذات التجربة البرلمانية الفريدة، إلى الإمارات بصيغتها الفدرالية الحديثة – كل دولة نسجت نظامها السياسي وفق خصوصياتها الاجتماعية والثقافية.
ومع تعاظم التحديات الإقليمية والعالمية، تتجه العديد من هذه الملكيات إلى التحديث التدريجي، وفتح مجالات جديدة للمشاركة والحوكمة الرشيدة، لكن دون التفريط في ركائز الحكم الموروثة. السؤال الذي يطرح نفسه: إلى أي مدى يمكن لهذه الأنظمة التكيّف مع تطلعات الشعوب العربية الشابة، دون أن تفقد جوهرها الملكي؟ الزمان كفيل بالإجابة.