في عالم باتت فيه وتيرة الحياة سريعة ومتطلباتها متزايدة، أصبح توازن الحياة والعمل أحد أهم مؤشرات جودة المعيشة في أي مدينة. لم يعد النجاح مرهونًا فقط بالإنجازات الاقتصادية، بل أيضًا بالقدرة على خلق بيئة متوازنة تضمن للإنسان وقته الخاص، صحته النفسية، وحياته الاجتماعية إلى جانب مسيرته المهنية.
وفي مفاجأة ملفتة، جاءت أبو ظبي، عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة، ضمن أفضل عشر مدن في العالم من حيث توازن الحياة والعمل، متقدمة على مدن عالمية كبرى مثل برشلونة وسيدني ودبلن. فما هو سر هذا التميز؟ وكيف يمكن للمدن العربية الأخرى أن تحذو حذوها؟
ما هو توازن الحياة والعمل؟
يعني “توازن الحياة والعمل” (Work-Life Balance) ببساطة قدرة الفرد على توزيع وقته وجهده بشكل متوازن بين التزاماته المهنية من جهة، واحتياجاته الشخصية والاجتماعية من جهة أخرى. يشمل ذلك القدرة على قضاء وقت كافٍ مع الأسرة، التمتع بالراحة النفسية، الانخراط في أنشطة ترفيهية، وممارسة الرياضة، دون أن يطغى العمل على بقية جوانب الحياة.
في كثير من المدن، خاصة المزدحمة أو ذات المنافسة العالية في سوق العمل، تتحول الوظيفة إلى عبء يستهلك ساعات اليوم كلها. بينما في مدن ذات سياسات متقدمة، يُنظر إلى الراحة النفسية والتوازن كعنصر أساسي لتحفيز الابتكار والإنتاج.
لماذا يعتبر هذا المؤشر مهمًا؟
أصبح مؤشر “توازن الحياة والعمل” أداة قياس حيوية تستخدمها المؤسسات الدولية لتقييم جودة الحياة في المدن. ارتفاع هذا المؤشر لا ينعكس فقط على راحة الأفراد، بل أيضًا على الاقتصاد نفسه.
من أبرز الفوائد:
- ارتفاع إنتاجية الموظفين: الشخص المرتاح نفسيًا يكون أكثر تركيزًا وكفاءة.
- انخفاض معدلات الإجهاد والاكتئاب: وهو ما ينعكس على الصحة العامة وتقليل الضغط على المنظومة الصحية.
- تعزيز الولاء المؤسسي: الموظفون يشعرون بانتماء أكبر عندما يشعرون بالاحترام لوقتهم وحياتهم الخاصة.
- استقرار اجتماعي وأسري: التوازن ينعكس على جودة العلاقات الأسرية والمجتمعية.
أما عند انخفاض هذا المؤشر، تظهر مشاكل كثيرة:
- أزمات نفسية حادة تؤدي أحيانًا إلى الاحتراق الوظيفي (Burnout).
- تفكك أسري بسبب غياب أحد الوالدين لفترات طويلة عن الحياة المنزلية.
- تراجع في الأداء العام، وهو ما يمثل خسارة مزدوجة للموظف ولمكان العمل.
لماذا أبو ظبي متقدمة عالميًا في هذا المجال؟
رغم ما قد يعتقده البعض عن دول الخليج باعتبارها بيئات عمل مكثفة، إلا أن أبو ظبي قدّمت نموذجًا استثنائيًا في تحقيق التوازن بين الطموح الاقتصادي والرؤية الاجتماعية. وقد حققت المدينة 50.4 نقطة على مؤشر التوازن، متفوقة على العديد من المدن الأوروبية الكبرى.
أبرز العوامل التي ساعدت أبو ظبي على هذا الإنجاز:
- البنية التحتية المتكاملة: المدينة تقدم شبكة مواصلات مريحة، وحدائق، ومساحات خضراء، وخدمات صحية وتعليمية متقدمة.
- توجه حكومي داعم للرفاه: الإمارات بشكل عام تبنت رؤية 2030 التي تركز على جودة الحياة كجزء أساسي من التنمية المستدامة.
- مرونة في أنظمة العمل: خاصة بعد جائحة كورونا، حيث تم اعتماد سياسات مرنة مثل العمل عن بُعد وساعات العمل المخفضة لبعض القطاعات.
- الأمان والاستقرار: مما يمنح الموظف شعورًا بالطمأنينة وبيئة داعمة للتركيز والراحة.
- تنوع ثقافي: ساعد في خلق مجتمع متسامح ومتنوع ثقافيًا، وهو ما يعزز التعايش والاندماج.
قائمة أفضل 10 مدن عالميًا في التوازن بين العمل والحياة (وفقًا لمؤشر Work-Life Balance)
الترتيب | المدينة | الدولة | درجة التوازن |
---|---|---|---|
1 | كوبنهاغن | الدنمارك | 70.5 |
2 | هلسنكي | فنلندا | 65.1 |
3 | أوسلو | النرويج | 63.2 |
4 | أوكلاند | نيوزيلندا | 62.7 |
5 | زيورخ | سويسرا | 55 |
6 | أمستردام | هولندا | 55.6 |
7 | ملبورن | أستراليا | 53.1 |
8 | إدنبرة | المملكة المتحدة | 57.1 |
9 | مدريد | إسبانيا | 51.9 |
10 | أبو ظبي | الإمارات | 50.4 |
كيف يمكن للمدن العربية الأخرى اللحاق بالقائمة؟
وجود أبو ظبي في هذه القائمة يمثل فرصة لإلهام باقي المدن العربية لتحسين جودة الحياة من خلال استراتيجيات واضحة. إليك بعض التوصيات:
1. تفعيل نظام العمل المرن
تخفيف ساعات العمل أو اعتماد أيام عمل عن بُعد سيساعد الموظفين على التوفيق بين الجوانب المختلفة لحياتهم.
2. تطوير النقل العام والمساحات العامة
وجود مواصلات مريحة وحدائق ومساحات مفتوحة يعزز من الشعور بالراحة والرفاهية.
3. تحسين بيئة العمل المؤسسية
بناء ثقافة مؤسساتية تشجع على الراحة النفسية والتوازن، وتمنح الموظفين إجازات فعلية دون ضغط.
4. تعزيز البرامج الاجتماعية والصحية
الاستثمار في الدعم النفسي، الرعاية الأسرية، والمبادرات المجتمعية يساعد في تعزيز الشعور بالانتماء والسعادة.
5. إعادة النظر في السياسات الاقتصادية
يجب أن تكون التنمية الاقتصادية شاملة لا تهمل الجانب الإنساني والاجتماعي، وأن تقاس بالرفاه كما تقاس بالناتج المحلي.
وختاما…
النجاح لم يعد يُقاس فقط بارتفاع الأبراج أو ضخامة الاستثمارات، بل بقدرة المدن على صنع حياة متوازنة لمواطنيها وسكانها. إدراج أبو ظبي ضمن قائمة العشر الأوائل عالميًا لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة تخطيط استراتيجي ونظرة شمولية تجاه الإنسان.
وربما حان الوقت لتعيد بقية المدن العربية النظر في أولوياتها. فالمنافسة لم تعد على مستوى الموارد فقط، بل أيضًا على راحة الإنسان وكرامته وسعادته.
“المدن التي تمنح الإنسان وقته.. تمنحه حياته.”