في عالم الاقتصاد، لا تبقى الخريطة على حالها. فمنذ الأزمة المالية العالمية في 2008 وحتى العام 2023، شهدت الثروات الوطنية للدول تحولات حادة، بعضها صعد فجأة، وبعضها الآخر تراجع رغم كل ما يمتلك من موارد وطموحات. وبينما تسلقت دول مثل سنغافورة وفنلندا سلم النمو بثقة، جاء أداء بعض دول الخليج – وعلى رأسها السعودية والإمارات – مفاجئًا للكثيرين، بعد أن سجّلتا انخفاضًا لافتًا في ثرواتهما خلال الفترة نفسها، في حين تمكنت قطر من كسر هذا النسق السلبي بتسجيلها نموًا ملحوظًا.
شهد العالم خلال الفترة من 2008 إلى 2023 تحولات اقتصادية هائلة أعادت تشكيل خريطة الثروات العالمية. فقد جاءت هذه السنوات محمّلة بأحداث مصيرية مثل الأزمة المالية العالمية، وثورات الطاقة المتجددة، وجائحة كوفيد-19، إضافة إلى تسارع الابتكار الرقمي، وتبدّل أولويات الاستثمار والإنتاج. وسط هذه التغيرات، اتخذت ثروات الدول مسارات متباينة.
بينما استطاعت دول أن تضاعف مكاسبها وتعزز حضورها الاقتصادي على المسرح الدولي، تراجعت أخرى بشكل مفاجئ، كاشفة عن مواطن ضعف في بنيتها الاقتصادية أو تأثرها العميق بالظروف الجيوسياسية.
ورغم أن الدول الغنية بالموارد كانت مرشحة لتحقيق أكبر المكاسب، إلا أن الأرقام أظهرت مفارقات مثيرة؛ فبعض دول الخليج مثل السعودية والإمارات سجلت تراجعًا ملحوظًا في ثرواتها خلال هذه الفترة، بينما نجحت قطر في تحقيق نمو إيجابي، مما يعكس تباين السياسات الاقتصادية ونماذج الاستثمار بين دول متقاربة جغرافيًا وثقافيًا. في المقابل، تفوقت دول صغيرة مثل سنغافورة وفنلندا، بينما واصلت اقتصادات ناشئة مثل الهند وإندونيسيا صعودها بثبات.
إن تحليل هذه التغيرات لا يقتصر على رصد الأرقام، بل يتعداه لفهم السياقات التي صنعت النجاح أو التراجع، ومدى جاهزية الدول لمواكبة تحديات العصر الجديد؛ من الابتكار والتنوع الاقتصادي، إلى استثمار الثروة البشرية وتعزيز المرونة أمام الصدمات العالمية.
هذا التقرير يستعرض الأرقام التي لا تكذب، ويركز على من ربح ومن خسر في سباق الثروات، مع نظرة معمّقة إلى التحولات الاقتصادية في الخليج العربي، وكيف تباينت النتائج بين دول متقاربة في الجغرافيا، لكن مختلفة في الرؤية والتطبيق.
الدول ذات أعلى نمو في الثروات (2008–2023):
- سنغافورة: نمو بنسبة 22.9% – الأعلى في القائمة.
- فنلندا: نمو بنسبة 21.0%.
- إسبانيا: نمو بنسبة 19.8%.
- جنوب إفريقيا والبرازيل: نمو بنسبة 17.7% و16.8% على التوالي.
- الهند وإندونيسيا: نمو قوي بنسبة 16.2% و15.1%.
الدول التي شهدت أكبر انخفاض في الثروة:
- السعودية: انخفاض بنسبة −13.3% – الأعلى سلبًا.
- الإمارات: انخفاض بنسبة −12.4%.
- إسرائيل: انخفاض بنسبة −12.2%.
- بلجيكا: انخفاض بنسبة −10.7%.
- كوريا الجنوبية: انخفاض بنسبة −8.1%.
دول كبرى شهدت استقرارًا أو انخفاضًا طفيفًا:
- أمريكا: انخفاض بنسبة −2.4%.
- ألمانيا، سويسرا، النمسا: انخفاض متوسط يتراوح بين −4% إلى −5.4%.
- المملكة المتحدة، الصين، فرنسا، أستراليا: نمو خجول بين 4% إلى 7%.
🇸🇦🇦🇪🇶🇦 تحليل أداء السعودية، الإمارات، وقطر
السعودية (Saudi Arabia):
- انخفاض بنسبة −13.3% في الثروة بين 2008 و2023.
- أكبر تراجع في التقرير، وهو مؤشر مثير للتساؤل رغم الطفرة الاقتصادية الأخيرة في مجالات الطاقة والخصخصة.
- يشير هذا إلى تحديات في تنويع مصادر الدخل وتأثير محتمل لتقلبات أسعار النفط قبل 2016.
- ومع ذلك، يمكن ملاحظة تعافٍ واضح في السنوات الأخيرة بفضل رؤية 2030، وهو ما يجعل هذا الانخفاض فرصة لإبراز التحول الجاري في الاقتصاد السعودي.
الإمارات (United Arab Emirates):
- سجلت انخفاضًا بنسبة −12.4%.
- بالرغم من الأداء السلبي الكلي، إلا أن الإمارات شهدت تحولًا اقتصاديًا كبيرًا نحو الابتكار، السياحة، والتكنولوجيا.
- الانخفاض قد يعكس الفترة التي تأثرت بها الدولة بسبب الأزمة المالية العالمية وتأثيرات كوفيد، لكنه لا يعكس بالضرورة الأداء الحالي القوي لدبي وأبوظبي كمراكز مالية عالمية.
قطر (Qatar):
- على العكس من جيرانها، سجلت نموًا بنسبة 12.5%.
- الأداء الإيجابي يعكس الاستقرار المالي والسياسات الاستثمارية الناجحة.
- نجاح استضافة كأس العالم 2022 واستثمارات الدولة في البنية التحتية والطاقة النظيفة تدعم هذا النمو.
لماذا تراجعت السعودية والإمارات بينما تقدمت قطر؟
عندما ننظر إلى دول الخليج، نرى ثروات نفطية طائلة، مشاريع عملاقة، وخطط تحول اقتصادي جريئة. لكن الأرقام تقول شيئًا آخر. ففي الوقت الذي يتوقع فيه البعض أن تقفز هذه الدول على سلم الثراء العالمي، تكشف بيانات الثروة للفترة من 2008 إلى 2023 عن مفارقة محيّرة: السعودية والإمارات، وهما من أبرز قادة الاقتصاد الخليجي، سجّلتا انخفاضًا كبيرًا في ثرواتهما الفردية بنسبة 13.3% و12.4% على التوالي. أما قطر، فكانت المفاجأة، إذ سجّلت نموًا إيجابيًا بنسبة 12.5%، لتصبح الاستثناء الخليجي اللافت.
🇸🇦 السعودية… الأرقام لا تعكس الطموح
رغم المشاريع الضخمة التي أطلقتها المملكة خلال العقد الأخير، من “رؤية 2030” إلى مدينة “نيوم”، إلا أن الأرقام تشير إلى تراجع الثروة الفردية بنسبة −13.3%، وهي الأكبر بين جميع الدول في التقرير. قد يُعزى هذا الانخفاض إلى فترة ما قبل التحول، حين كانت المملكة تعتمد بشدة على النفط، قبل أن تبدأ فعليًا في تنويع مصادر دخلها. لكن هذه الأرقام تثير تساؤلًا مهمًا: هل التحول الاقتصادي جاء متأخرًا؟ أم أن الثروة لم تُوزّع بعد بالشكل المطلوب؟
🇦🇪 الإمارات… مدينة الأحلام، وأرقام متراجعة
الإمارات هي مرآة التنوّع والاستقرار والاستثمار الذكي في المنطقة، ومع ذلك، تراجعت الثروة بنسبة −12.4%. السبب قد يكون في تأثيرات خارجية كالأزمة المالية العالمية، أو داخلية تتعلق بتفاوت الثروة بين إمارات الدولة. لكن رغم التراجع، فإن الإمارات لا تزال من أكثر الاقتصادات انفتاحًا وجذبًا للمستثمرين، ما يجعل هذا التراجع رقميًا فقط لا يعكس القفزة الحضارية التي حققتها الدولة.
🇶🇦 قطر… تغرّد خارج السرب
في الوقت الذي تراجعت فيه جارتاها الكبيرتان، استطاعت قطر أن تنمو بثبات بنسبة 12.5%. كان الاستثمار في البنية التحتية، والتنمية البشرية، والتحضير الباكر لكأس العالم، عناصر حاسمة في تحقيق هذا النمو. كما أن السياسة المالية المستقرة، والاحتياطي الضخم من الغاز الطبيعي، مكّنا قطر من تجاوز التحديات وتحقيق توازن اقتصادي واضح.
لماذا حققت بعض الدول نموًا واضحًا في الثروات؟
1. الاستثمار في الابتكار والتكنولوجيا
- دول مثل سنغافورة وفنلندا والهند حققت نموًا كبيرًا لأنها ركزت على اقتصاد المعرفة، والتحول الرقمي، ودعم الشركات الناشئة.
- الابتكار لم يقتصر على التكنولوجيا فقط، بل شمل التعليم، والحوكمة، والذكاء الصناعي.
2. تنوع مصادر الدخل
- دول مثل قطر وإندونيسيا وإسبانيا عملت على تنويع اقتصادها بعيدًا عن الاعتماد على مصدر واحد مثل النفط أو السياحة فقط.
- قطر مثلًا لم تكتف بتصدير الغاز، بل استثمرت في قطاعات التعليم والرياضة والعقار حول العالم.
3. الاستقرار السياسي والإداري
- الدول ذات النمو الواضح حافظت على سياسات اقتصادية مستقرة، ومناخ جاذب للمستثمرين.
- مثلًا، الهند رغم التحديات السكانية الضخمة، استطاعت ضبط التوازن بين القطاعين العام والخاص.
4. الاستفادة الذكية من الأزمات
- دول مثل البرازيل وجنوب إفريقيا استطاعت تحويل بعض الأزمات إلى فرص من خلال تنشيط قطاعات محلية وإعادة هيكلة الدعم المالي والضريبي.
لماذا فشلت بعض الدول في تحقيق نمو أو شهدت انخفاضًا في الثروات؟
1. الاعتماد المفرط على النفط أو مصدر واحد
- مثل حالة السعودية والإمارات في السنوات التي سبقت التحول، حيث كان هناك اعتماد كبير على العائدات النفطية.
- تقلبات أسعار النفط العالمية بين 2014 و2016 أثّرت مباشرة على الإيرادات والثروة الوطنية.
2. التأثر الشديد بالأزمات المالية أو الصحية
- دول مثل إسرائيل وكوريا وبلجيكا تأثرت بشكل عميق بتبعات الأزمة المالية العالمية، وجائحة كورونا، وأزمات سلاسل التوريد.
- بعض الاقتصادات الأوروبية لم تتعافَ بالكامل من أزمة 2008 حتى دخلت في أزمة الجائحة.
3. بطء الاستجابة الاقتصادية أو تأخُّر الإصلاح
- دول مثل إيطاليا وألمانيا عانت من جمود في إصلاح الأنظمة الاقتصادية أو تقادم البنية الصناعية.
- الإصلاحات غالبًا ما تكون بطيئة في الدول التي تواجه تحديات بيروقراطية وسياسية داخلية.
4. عدم التوازن في توزيع الثروة
- انخفاض الثروة في بعض الدول قد لا يكون بسبب ضعف الاقتصاد الكلي، بل بسبب تركّز الثروة في أيدي قلة قليلة، مما يضعف المؤشرات الشاملة للثروة العامة.
الخلاصة:
ما بين رؤية سعودية جريئة، وطموح إماراتي عالمي، واستقرار قطري هادئ، يظهر أن الثروة لا تُقاس فقط بالمشاريع الكبرى، بل بكيفية توجيهها واستدامتها. ومع تسارع التحولات، قد تحمل السنوات المقبلة مفاجآت جديدة… فهل نشهد قريبًا صعودًا جديدًا للسعودية والإمارات؟ أم تحافظ قطر على تفوّقها الهادئ؟
المصدر Global Wealth Report 2024