رغم ما تتمتع به العديد من الدول العربية من ثروات نفطية هائلة واقتصادات متنامية، إلا أن أسماءها تغيب بشكل ملحوظ عن قائمة أكثر الدول احتضانًا لفئة الأثرياء فاحشي الثراء (UHNWI) — وهم الأفراد الذين تتجاوز ثرواتهم 30 مليون دولار.
تُظهر البيانات العالمية أن هذه الفئة ما تزال تتركز بشكل كبير في الولايات المتحدة وأوروبا والصين، بينما تندرج معظم الدول العربية – إن وجدت – ضمن خانة “Other” الغامضة التي تضم دولًا لم يُفصح عنها تفصيلًا، رغم أنها مجتمعة تشكّل أكثر من 8% من هذه الثروات.
هذا الغياب العربي يطرح تساؤلات مشروعة:
- أين يتمركز الأثرياء العرب؟
- ولماذا لا تظهر دول مثل الإمارات والسعودية وقطر بوضوح في مثل هذه التصنيفات رغم ما تشهده من نهضة اقتصادية وبيئة استثمارية متقدمة؟
- وهل تشهد السنوات القادمة تغيرًا في هذه الخريطة العالمية للثروات؟
في هذا التقرير، نسلط الضوء على مكانة الدول العربية في خريطة الأثرياء العالمية، ونقارنها بدول أقل ثروة لكنها أكثر حضورًا، ونحلل الأسباب، والفرص، وما يمكن أن تحمله السنوات المقبلة من تغيرات.
المحور الأول: غياب عربي رغم وفرة الثروات
من الملفت أن قائمة الدول التي تضم أكبر عدد من الأثرياء فاحشي الثراء (UHNWI) تخلو تمامًا من أي دولة عربية في المراكز الثلاثين الأولى، رغم أن هذه المنطقة تضم بعضًا من أغنى اقتصادات العالم من حيث العوائد النفطية والاحتياطيات المالية السيادية.
الولايات المتحدة وحدها تحتضن ما يزيد عن 225 ألف شخص يملكون أكثر من 30 مليون دولار، أي ما يعادل نحو 36% من أثرياء العالم. تليها الصين وألمانيا وكندا، بينما نجد دولًا صغيرة مثل سويسرا (بأقل من 9 ملايين نسمة) ضمن القائمة بـ14 ألف ثري فائق.
في المقابل، تغيب دول الخليج العربي — رغم وفرة مواردها — عن المشهد، ولا يظهر اسم الإمارات، ولا السعودية، ولا قطر، ما يثير علامات استفهام:
هل هذه الدول لا تضم فعليًا عددًا كافيًا من الأثرياء؟ أم أن ثروات العرب تتركز خارج أوطانهم؟ أم أن أساليب التصنيف تعتمد على مكان الإقامة القانوني أو الضريبي وليس الجنسية الأصلية؟
ما يدعم هذا الاحتمال هو بند “Other” في نهاية القائمة، والذي يجمع بيانات نحو 50 دولة لم تُذكر بالاسم، ويمثل ما يزيد عن 51 ألف ثري فاحش الثراء، أي أكثر من 8% من إجمالي أثرياء العالم.
من المرجح أن دولًا مثل الإمارات والسعودية وقطر والكويت ومصر تقع ضمن هذا التصنيف المجمع، دون إبراز فردي يوضح حجمها الحقيقي مقارنة بغيرها.
الغياب لا يعني الفقر، بل قد يكشف عن قصور في طريقة الرصد، أو عن توجه أثرياء العرب للاستقرار المالي أو الإداري في دول توفر حوافز ضريبية ومصرفية مثل سويسرا، سنغافورة، أو بريطانيا، وهو ما يطمس الهوية الأصلية في الإحصاءات العالمية.
🌍 المحور الثاني: الإمارات والسعودية.. استثناءات محتملة في بند “Other”
رغم غيابها عن القائمة الصريحة، تُعتبر الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية من أبرز المرشحين للتمركز داخل فئة “Other” التي تمثل نحو 8.1% من إجمالي الأثرياء الفاحشي الثراء حول العالم.
فالإمارات على وجه التحديد — وخاصة دبي وأبوظبي — تحوّلت في العقد الأخير إلى ملاذ عالمي للثروة والاستثمار، حيث باتت موطنًا مفضّلًا لرواد الأعمال، والمستثمرين، والمدراء التنفيذيين، بل وحتى لأثرياء من آسيا وروسيا والهند، ممن فضلوا الإقامة فيها لما توفره من:
- نظام ضريبي مرن.
- بيئة مصرفية متطورة.
- بنية تحتية عالمية المستوى.
- أمن واستقرار وحرية حركة رؤوس الأموال.
وبالمثل، تشهد السعودية — خاصة في ظل “رؤية 2030” — تحولات اقتصادية ضخمة وانفتاحًا غير مسبوق على الاستثمار الأجنبي والسياحي، ما يدعم نشوء بيئة خصبة لتراكم الثروات، خصوصًا مع بروز قطاعات مثل الطاقة المتجددة، التقنية، والخدمات المالية.
لكن، رغم هذه المؤشرات، لا تزال أعداد الأثرياء المُعلنين أقل من مثيلاتها في الدول الغربية، ويعود ذلك إلى عدة عوامل منها:
- التفضيل القانوني للإدراج الخارجي: حيث يسجل كثير من الأثرياء العرب ثرواتهم في دول توفر سرية مصرفية أو جنسية ثانية.
- قصور في الشفافية أو ضعف تدفق البيانات المالية الدقيقة.
- اختلاف تعريف “الثروة” في بعض السياقات، ما قد يؤدي إلى استبعاد بعض الأفراد من التصنيفات الدولية رغم أهليتهم.
وعليه، فبينما يغيب الحضور العلني لدول الخليج عن قوائم الثروات، فإن الواقع يشير إلى أن الإمارات والسعودية تحديدًا من بين أبرز بؤر تراكم رأس المال في المنطقة، وربما في العالم.
المحور الثالث: التعداد السكاني يغيّر المعادلة
من المثير للاهتمام أن قياس عدد الأثرياء فاحشي الثراء لا يكون عادلًا دومًا عند النظر إلى العدد المطلق فقط، فعدد السكان يلعب دورًا محوريًا في فهم مدى تركّز الثروات داخل أي دولة.
فبينما تضم الولايات المتحدة 225 ألف ثري، إلا أن هذه الكتلة تتوزع على أكثر من 330 مليون نسمة. بالمقابل، نجد دولًا صغيرة مثل سويسرا تضم 14,734 ثريًا فقط، لكن نسبة الأثرياء فيها بالنسبة لعدد السكان تُعد مرتفعة جدًا، ما يعكس كثافة الثروة داخل شريحة محدودة.
وعند إسقاط هذا المنطق على الدول العربية، يتبيّن أن بعض دول الخليج مثل قطر والإمارات — ذات التعداد السكاني المنخفض — ربما تضم عددًا أقل من الأثرياء بالمفهوم المطلق، لكن نسبة الأثرياء إلى عدد السكان قد تكون من بين الأعلى عالميًا.
مثلًا:
- إذا كانت الإمارات تضم ما بين 4 إلى 5 آلاف ثري فاحش الثراء (ضمن بند “Other”)، فهذا يعني وجود ثري واحد لكل 2,000 نسمة تقريبًا.
- بينما في الصين، رغم وجود قرابة 100 ألف ثري، فإن الكثافة السكانية تُقلل من تأثيرهم النسبي.
هذه المقارنة تفتح المجال للنظر إلى مؤشرات الثروة النسبية وليس فقط الأرقام المطلقة، وهو ما يعكس تقدمًا خفيًا للدول الخليجية في مضمار تراكم رأس المال الفردي، وإن لم يظهر بوضوح في القوائم العالمية.
المحور الرابع: مستقبل الأثرياء العرب.. إلى أين؟
رغم الغياب الظاهري للدول العربية عن قوائم الأثرياء العالمية، فإن التغيرات الاقتصادية والسياسية التي تشهدها المنطقة توحي بأن السنوات القادمة قد تشهد تحولًا نوعيًا في خريطة توزيع الثروة عربيًا.
✅ فرص واعدة:
- تنويع اقتصادي واسع تقوده دول مثل السعودية والإمارات ومصر، بالابتعاد عن الاعتماد الحصري على النفط، واستهداف قطاعات مثل التقنية، السياحة، الذكاء الاصطناعي، والطاقة النظيفة.
- فتح الأبواب أمام الاستثمار الأجنبي، وخلق بيئات تنظيمية وتشريعية أكثر جذبًا لرؤوس الأموال.
- صعود الجيل الجديد من رواد الأعمال العرب في مجالات التكنولوجيا، الخدمات المالية، والتجارة الإلكترونية.
كل هذه العوامل تخلق أرضًا خصبة لنشوء ثروات جديدة، لا تتبع النمط التقليدي القائم على الريع النفطي أو التوريث العائلي، بل ترتكز على الابتكار والسوق الحرة.
⚠️ التحديات الحقيقية:
لكن في المقابل، لا تزال هناك تحديات قد تُعيق بروز الثروات العربية عالميًا، منها:
- غياب البيانات الشفافة حول توزيع الثروات الفردية.
- ميل الأثرياء العرب لتسجيل ثرواتهم خارج بلدانهم الأصلية.
- ضعف بعض الأنظمة الضريبية أو البنكية في تتبع ومراقبة حركة رؤوس الأموال داخليًا.
- محدودية التغطية الإعلامية والبحثية للثروات الناشئة في العالم العربي.
ومع ذلك، فإن الرؤية الاستراتيجية التي تتبناها بعض دول الخليج، والإصلاحات الهيكلية المتسارعة في أسواق المال والعقار والتقنية، قد تجعل من العالم العربي أحد أبرز اللاعبين في قوائم الثروات الفاحشة خلال العقد القادم.
الخاتمة: ثروات العرب بين الواقع والإحصاء
الغياب العربي عن قوائم الأثرياء العالميين لا يعكس بالضرورة نقصًا في الثروة، بل ربما يُشير إلى توزيع خفي للمال والمكانة خارج الأطر الرسمية.
ففي الوقت الذي تُصدّر فيه المنطقة العربية النفط والغاز وتستثمر في الموانئ والذكاء الاصطناعي والعقار الفاخر، تظل أرقام الأثرياء فيها أقل من المتوقع في التقارير الدولية.
ومع ازدهار دبي كمركز عالمي للأعمال، وصعود السعودية كمحور تنمية إقليمي، يبدو أن العقد المقبل قد يشهد انفجارًا في عدد الأثرياء العرب – ليس فقط من حيث الكم، بل من حيث الظهور الواضح في التصنيفات العالمية.
فهل نرى قريبًا دولًا عربية ضمن قائمة العشر الأوائل في عالم الثروات؟
الأرقام القادمة قد تحمل الإجابة.