في عالم يتزايد فيه التنقل البشري عبر الحدود، تظهر الهجرة كأحد أبرز ملامح العصر الحديث، لكنها لا تأخذ الشكل نفسه في كل مكان. فمن جهة، نجد دولًا عربية — لا سيما في الخليج — تتصدر قوائم العالم من حيث نسبة المهاجرين إلى السكان، حيث تصل النسبة في الإمارات إلى 88%، وفي قطر إلى 77%، وهو ما يشير إلى اعتماد شبه كامل على العمالة الوافدة. إلا أن هذه الهجرة غالبًا ما تكون اقتصادية ومؤقتة، تُقاس بعدد العقود لا بعدد الجنسيات الممنوحة.
وعلى النقيض، تستقبل دول كأستراليا وسويسرا ونيوزيلندا مهاجرين من مختلف قارات العالم، وتقدم لهم برامج استقرار طويلة الأمد، تسمح بالاندماج المجتمعي والتدرّج نحو نيل الجنسية. هؤلاء لا يأتون فقط لأجل العمل، بل لبناء حياة جديدة.
المثير أن الدول العربية لا تستقبل فقط أعدادًا ضخمة من المهاجرين، بل تنفرد كذلك بتركيبة جنسياتهم وأسباب قدومهم؛ إذ تتركز غالبية المهاجرين من دول الشرق الأوسط وجنوب آسيا، وتُوجّه معظمهم إلى وظائف يدوية، أو أعمال في قطاعات كالبناء، والخدمات، والنقل، دون مسار واضح للإقامة أو المواطنة.
فما الذي يدفع ملايين الناس إلى ترك أوطانهم بحثًا عن فرص في هذه البلدان؟ ومن هم المهاجرون الذين يشكلون هذه النسب الضخمة؟ وهل يمكن اعتبار هذه الدول “مجتمعات مهاجرة” فعلاً، أم أن الهجرة فيها محصورة في إطار العمل فقط؟ في هذا التقرير، نغوص في الأرقام والتفاصيل، لنكشف الصورة الكاملة للهجرة في الدول العربية ومثيلاتها من دول العالم.
قراءة سريعة في الأرقام
تكشف البيانات الحديثة عن مفارقة لافتة في خارطة الهجرة العالمية: الدول العربية، وعلى رأسها دول الخليج، تتصدر القائمة العالمية من حيث نسبة المهاجرين إلى إجمالي السكان. ففي الإمارات مثلًا، يشكل المهاجرون نحو 88% من عدد السكان، تليها قطر بنسبة 77%، ثم الكويت بـ73%. وهي نسب تفوق بكثير تلك المسجلة في دول تقليدية للهجرة مثل أستراليا (30%) أو نيوزيلندا (29%).
الدولة | نسبة المهاجرين من السكان |
---|---|
الإمارات العربية المتحدة | 88% |
قطر | 77% |
الكويت | 73% |
البحرين | 55% |
عمان | 46% |
سنغافورة | 43% |
السعودية | 39% |
الأردن | 34% |
أستراليا | 30% |
سويسرا | 29% |
نيوزيلندا | 29% |
لكن وراء هذه الأرقام واقعان مختلفان تمامًا:
- في الدول العربية، تمثل الهجرة غالبًا نمطًا مؤقتًا مرتبطًا بالعمل. العامل الوافد يدخل بعقد محدد، ولا تُمنح له إقامة دائمة أو جنسية في أغلب الحالات. هذه الهجرة تُبنى على الحاجة الاقتصادية، لا على الرغبة في الاستيطان أو الاندماج.
- أما في الدول الغربية، فالهجرة تأخذ طابعًا آخر؛ إذ تُفتح الأبواب أمام المهاجرين من مختلف الجنسيات ضمن برامج استقرار طويلة الأمد، تتيح للمهاجر وعائلته الإقامة، والتعليم، والاندماج المجتمعي، بل ونيل الجنسية لاحقًا.
هذا التباين يضع الدول العربية ضمن تصنيف خاص للهجرة الاقتصادية المؤقتة، ويطرح تساؤلات عن استدامة هذا النموذج، وأثره الاجتماعي على المجتمعات المضيفة والمهاجرة على حد سواء.
المحور الثاني: الدول العربية.. سوق العمالة المفتوح
🇦🇪 الإمارات: تنوّع ضخم في جنسيات المهاجرين.. لكن من دون طريق إلى الجنسية
تتصدر الإمارات العربية المتحدة العالم بنسبة المهاجرين، حيث يشكل الوافدون نحو 88% من إجمالي السكان. هذه النسبة المدهشة لا تعكس فقط حجم الاقتصاد الإماراتي المتنامي، بل تفضح أيضًا حجم الاعتماد على العمالة الأجنبية في مختلف القطاعات، من البناء وحتى التكنولوجيا المتقدمة.
اللافت في الحالة الإماراتية هو التنوع الهائل في جنسيات الوافدين؛ إذ يتكوّن النسيج السكاني من مزيج واسع يشمل:
- الهنود (يشكلون أكبر جالية أجنبية في الدولة)
- الباكستانيين
- البنغاليين
- الفلبينيين
- المصريين
- وجنسيات أخرى من الشرق الأوسط، وشرق آسيا، وحتى أوروبا.
ما هي أنواع الأعمال التي تجذبهم؟
- العمالة البسيطة: في قطاعات البناء، التنظيف، والنقل.
- الخدمات: في الفنادق، المطاعم، والمحال التجارية.
- المجالات المهنية: مثل التمريض، التعليم، الحوسبة.
- الوظائف الإدارية العليا: في قطاعات النفط، المال، والتقنية — والتي غالبًا ما تجذب كوادر من الغرب وجنوب آسيا.
إقامة لا تعني اندماجًا
ورغم أن هؤلاء الوافدين يشكلون الغالبية العظمى من السكان، إلا أن نظام الإقامة في الإمارات لا يمنحهم مسارًا واضحًا للجنسية أو حتى إقامة دائمة في معظم الحالات. فهم “ضيوف دائمون” يعملون وفقًا لعقود قابلة للتجديد، وتظل إقامتهم مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بالوظيفة والكفيل.
هذا النموذج الاقتصادي القائم على الهجرة المؤقتة مكّن الإمارات من تحقيق نهضة عمرانية واقتصادية مذهلة، لكنه في الوقت نفسه يثير تساؤلات حول التوازن الديموغرافي، والاستدامة الاجتماعية طويلة المدى.
🇶🇦 قطر: ثقل اقتصادي يبنيه الوافدون.. ونهضة عمرانية بقيادة العمالة الأجنبية
تحتل قطر المرتبة الثانية عالميًا من حيث نسبة المهاجرين إلى عدد السكان، بنسبة 77%، وهي نسبة تؤكد أن المجتمع القطري يعتمد بشكل شبه كلي على اليد العاملة الأجنبية في مختلف نواحي الحياة.
هذا الاعتماد لم يأتِ من فراغ؛ فقد شهدت قطر خلال العقدين الماضيين طفرة عمرانية واقتصادية هائلة، مدفوعة بعوائد الغاز الطبيعي، وتوجت هذه المرحلة بتنظيم كأس العالم 2022، الذي استدعى استقدام عشرات الآلاف من العمالة المؤقتة.
🌍 الجنسيات المهيمنة:
- النيباليون والبنغاليون والفلبينيون: يشكلون الشريحة الأكبر في وظائف البناء والخدمات.
- الهنود والمصريون: يتوزعون بين مهن إدارية، تقنية، وتعليمية.
- جاليات من شرق آسيا وشرق أفريقيا أيضًا لها وجود معتبر في السوق القطري.
🛠️ القطاعات الجاذبة:
- الإنشاءات الكبرى: الملاعب، الطرق، المترو، الموانئ.
- الخدمات والمرافق: الفنادق، المواصلات، صيانة المنشآت.
- المجال الصحي والتعليمي: أطباء، ممرضون، معلمون.
⚖️ بين الفرصة والقيود
ورغم ما وفرته قطر من فرص عمل ودخل لعشرات الآلاف من الوافدين، فإن نظام الإقامة لا يتيح لهؤلاء العمال مسارًا نحو الإقامة الدائمة أو الجنسية. فالعقد هو المحرك، والكفيل هو الرابط الأساسي بين العامل والدولة.
ومع ذلك، أجرت قطر في السنوات الأخيرة إصلاحات تشريعية مهمة في نظام العمل، أبرزها:
- إلغاء شرط “موافقة الكفيل” لتغيير الوظيفة.
- فرض حد أدنى للأجور.
- تعزيز ظروف السكن والمعيشة للعمال.
تبقى الهجرة في قطر، كما في الإمارات، ظاهرة اقتصادية قبل أن تكون اجتماعية، وتطرح تساؤلات حول مستقبل التركيبة السكانية، ومدى اندماج هذه الجاليات في مجتمع محدود الحجم، لكنه طموح في مشاريعه العالمية.
🇰🇼 الكويت: كثافة وافدين في دولة صغيرة.. وتوترات بين الحاجة والسياسة
بنسبة مهاجرين تبلغ 73% من عدد السكان، تحتل الكويت المركز الثالث عالميًا في معدل الاعتماد على العمالة الأجنبية. لكن خلافًا للإمارات وقطر، تواجه الكويت جدلًا داخليًا مستمرًا حول ملف الوافدين، وتظهر بوضوح تناقضات بين متطلبات السوق ومزاج الشارع والسياسة.
👥 الجنسيات الأكبر حضورًا:
- الهنود: يشكلون أكبر جالية في البلاد.
- المصريون: يحتلون المرتبة الثانية، مع حضور واسع في القطاعات الحكومية والمهنية.
- البنغاليون والفلبينيون: يعملون بشكل مكثف في القطاعات الخدمية.
🏢 أين يعملون؟
- الخدمات العامة: كسائقي سيارات، عمّال نظافة، موظفي دعم.
- المجال التعليمي والطبي: معلمون، أطباء، وممرضون، خصوصًا من مصر والهند.
- القطاع الصناعي والحرفي: في الميكانيكا، الكهرباء، الأعمال اليدوية.
⚖️ أزمة توازن:
رغم حاجة الاقتصاد الكويتي لهؤلاء العمال، فإن هناك خطابًا متصاعدًا حول “اختلال التركيبة السكانية”، وهو ما دفع بعض الجهات إلى المطالبة بتقليص أعداد الوافدين، خاصة في الوظائف منخفضة المهارة.
وقد اتخذت الحكومة عدة إجراءات في هذا الإطار، مثل:
- وضع “كوته” جنسية لبعض الجاليات.
- تحديد سقوف عمرية لاستقدام العمال.
- تقنين عقود العمل وتقليص التجديد العشوائي.
لكن هذه الإجراءات غالبًا ما تصطدم باحتياجات السوق، ونقص الكفاءات المحلية في بعض التخصصات، ما يجعل الكويت تدور في حلقة مفرغة بين الاعتماد على الوافد، والرغبة في تقليص وجوده.
الكويت مثال واضح على التحدي الذي تواجهه دول تعتمد على العمالة الأجنبية، لكنها لم تحسم بعد رؤيتها طويلة المدى للعلاقة بين السكان الأصليين والوافدين.
🇧🇭 البحرين: سوق عمل مفتوح في أصغر دول الخليج.. بتوازن أكثر مرونة
مع أن البحرين هي أصغر دول مجلس التعاون الخليجي من حيث المساحة والسكان، فإنها تحتفظ بنسبة مهاجرين تبلغ 55% من إجمالي السكان — وهي نسبة مرتفعة تجعلها رابع أعلى دولة في العالم من حيث الكثافة السكانية للوافدين.
ورغم هذا الاعتماد الكبير على العمالة الأجنبية، فإن البحرين تُعد من أكثر الدول الخليجية مرونة في سياساتها تجاه الوافدين، سواء في قوانين العمل أو إتاحة مسارات أكثر استقرارًا لبعض الفئات.
🌍 الجنسيات الأكثر حضورًا:
- الهنود والباكستانيون: يمثلون العمود الفقري للعمالة اليدوية.
- الفلبينيون: يتركزون في الخدمات والضيافة.
- عدد معتبر من الجنسيات العربية (مثل المصريين والسوريين) يعمل في المهن المتوسطة والتعليم والقطاع الطبي.
🛠️ القطاعات الجاذبة:
- الصناعة: خاصةً الألمنيوم والبتروكيماويات.
- الضيافة والفندقة: البحرين وجهة سياحية خليجية نشطة.
- القطاع المالي: مع وجود بنية مصرفية متقدمة نسبيًا.
- الخدمات اليومية: من النقل والمطاعم وحتى الرعاية المنزلية.
⚖️ سياسات محسوبة.. ومبادرات إصلاحية
من بين جميع دول الخليج، كانت البحرين من أوائل الدول التي خففت من نظام الكفالة التقليدي، وسمحت بتصاريح عمل مرنة (Flexi Permit) تتيح لبعض الوافدين العمل دون كفيل مباشر، ما شكّل نقلة نوعية في العلاقة بين العامل وسوق العمل.
هذه المرونة ساعدت البحرين على:
- استقطاب فئات مختلفة من العمالة.
- الحد من ظاهرة العمالة غير النظامية.
- خلق مناخ تنافسي أكثر توازنًا بين المواطنين والوافدين.
ورغم التحديات الاقتصادية التي واجهتها في السنوات الأخيرة، لا تزال البحرين تحافظ على نمط انفتاح نسبي على المهاجرين، ما يعزز دورها كمركز تجاري ومصرفي حيوي في المنطقة.
🇴🇲 عُمان: جذب للعمالة بهدوء.. في ظل سعي لتوطين الوظائف
في مشهد الهجرة بالخليج، قد لا تبدو سلطنة عُمان بنفس الضجيج الإعلامي أو الوتيرة المتسارعة لجيرانها، لكنها تسجل نسبة مهاجرين مرتفعة تبلغ 46% من إجمالي السكان، ما يجعلها خامس أعلى دولة في العالم من حيث كثافة الوافدين بالنسبة للسكان.
وتتميز السلطنة بسياسة هادئة نسبيًا في استقدام العمالة، تقوم على موازنة دقيقة بين احتياجات السوق المحلي وبرامج التوطين (التعمين) التي تسعى إلى رفع نسبة مشاركة المواطنين في القوى العاملة.
🌏 الجنسيات البارزة:
- الهنود: يشكلون النسبة الأكبر من الوافدين، خاصة في المهن الحرفية والتجارية.
- البنغاليون والباكستانيون: يتركزون في أعمال البناء والزراعة.
- العمالة المصرية والفلبينية: حاضرة في مجالات التعليم والرعاية الصحية والضيافة.
🛠️ القطاعات الجاذبة:
- الزراعة والصيد البحري: خصوصًا في المناطق الساحلية.
- البناء والمقاولات: في ظل مشاريع بنية تحتية متنامية.
- الخدمات اليومية والتوزيع: سائقون، بائعون، موظفو دعم.
- الصناعة والنقل والخدمات اللوجستية: بفضل الموانئ الكبرى كميناء صلالة والدقم.
⚖️ نظام أكثر تحفظًا.. لكنه منظم
عُمان تتعامل مع ملف الهجرة بمنهج أكثر تحفظًا مقارنة بجيرانها، حيث لا تمنح إقامة طويلة بسهولة، وتطبق أنظمة صارمة لتجديد تصاريح العمل، فضلًا عن فرض قيود على تحويل بعض الوظائف إلى غير العمانيين ضمن خطة “التعمين”.
لكن هذا النهج ساعد السلطنة على:
- ضبط سوق العمل ومنع الفوضى.
- الحفاظ على نسب بطالة منخفضة نسبيًا بين المواطنين.
- تجنّب التحولات الديموغرافية الحادة.
ورغم انخفاض حجم الاقتصاد مقارنة بدول كالإمارات أو السعودية، فإن عُمان تظل وجهة مفضلة لآلاف العمالة الوافدة الباحثين عن فرص مستقرة في بيئة آمنة ومنظمة.
🇸🇦 السعودية: أكبر سوق عمالي في المنطقة بين التحول والرغبة في “السعودة”
تمثل المملكة العربية السعودية أضخم اقتصاد عربي وأكبر سوق عمل في الخليج، وتُعد من أكثر الدول استقطابًا للوافدين، حيث تبلغ نسبتهم 39% من السكان، وهي نسبة ضخمة بالنظر إلى عدد السكان الكبير نسبيًا مقارنة بجيرانها.
ورغم أن المملكة بدأت منذ سنوات برنامجًا واسع النطاق لـ”سعودة” الوظائف، فإنها لا تزال تعتمد بشكل كبير على العمالة الأجنبية في قطاعات حيوية، خصوصًا مع تنفيذ مشاريع “رؤية 2030” الضخمة، التي تحتاج إلى ملايين من الأيدي العاملة المؤقتة والمتخصصة.
🌍 الجنسيات الأكثر تواجدًا:
- الهنود: يأتون في الصدارة من حيث العدد.
- المصريون: ثاني أكبر جالية وافدة، يشغلون مواقع في التعليم، الصحة، والقطاعات الحكومية.
- البنغاليون والفلبينيون والباكستانيون: يتركزون في المهن اليدوية والخدمات.
- جنسيات آسيوية وغربية أيضًا حاضرة في المجالات التخصصية العليا.
🏗️ القطاعات الجاذبة:
- البناء والتشييد: لا سيما مع مشاريع نيوم، البحر الأحمر، والقدية.
- الصحة والتعليم: مع اعتماد كبير على الكوادر الوافدة.
- الخدمات اليومية: النقل، التوصيل، صيانة المنازل.
- القطاعات الفنية والتقنية: الهندسة، البرمجيات، الاتصالات.
⚖️ بين الحاجة والإصلاح
على مدار السنوات الأخيرة، أطلقت السعودية مجموعة من الإصلاحات في نظام العمل، أبرزها:
- الحد من الاعتماد على نظام الكفالة التقليدي.
- تحسين ظروف الإقامة والعمل للوافدين.
- توسيع قاعدة الوظائف الحصرية للمواطنين في قطاعات معينة.
لكن رغم هذه الجهود، تبقى العمالة الوافدة عنصرًا أساسيًا في دورة الاقتصاد السعودي، خصوصًا في الوظائف التي لا تزال تعاني من نقص في الكفاءات المحلية أو عدم الإقبال عليها.
السعودية، إذًا، تمثل حالة انتقالية فريدة: من اقتصاد معتمد على الوافدين، إلى اقتصاد يطمح إلى التوازن بين المواطن والكفاءة الأجنبية، ضمن مشروع تنموي واسع النطاق لا يزال في طور البناء.
🇯🇴 الأردن: هجرة مركبة بين عمالة ولاجئين.. وتحديات سوق العمل المحلي
يحتل الأردن موقعًا مختلفًا في مشهد الهجرة العربي، فبنسبة مهاجرين تبلغ 34% من إجمالي السكان، قد يبدو وكأنه يستقطب الأجانب بنفس النمط الخليجي، لكن الواقع أكثر تعقيدًا. فهذه النسبة لا تعكس فقط العمالة الوافدة، بل تشمل أيضًا عددًا ضخمًا من اللاجئين، ما يجعل الأردن مثالًا على الهجرة المركبة: بين الاقتصادية والاضطرارية.
🌍 التركيبة السكانية للمهاجرين:
- اللاجئون الفلسطينيون: يشكلون إحدى أكبر الجاليات، وقد حصل الكثير منهم على الجنسية الأردنية.
- اللاجئون السوريون: توافدوا بأعداد كبيرة منذ 2011، ويشكلون ضغطًا على البنية التحتية والموارد.
- العمالة المصرية: تمثل القوة الأساسية في قطاعات الزراعة والبناء والخدمات.
- جنسيات أخرى: مثل الفلبينيين والسودانيين، يعملون في الرعاية والخدمة المنزلية.
🛠️ القطاعات التي تعتمد على الوافدين:
- الزراعة: قطاع لا يُقبل عليه الأردنيون، ويعتمد بنسبة شبه كاملة على المصريين.
- البناء والإنشاءات: عمالة وافدة بسبب طبيعة العمل الشاق.
- الخدمات والمطاعم والفنادق: يد عاملة منخفضة الأجر.
- الرعاية المنزلية والصحية: اعتماد على الفلبينيات والسريلانكيات.
⚖️ تحديات اقتصادية واجتماعية
وجود هذا الكم من المهاجرين واللاجئين أدى إلى:
- ضغط على سوق العمل المحلي، وزيادة التنافس على الوظائف ذات الأجور المتدنية.
- ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب الأردني.
- تحديات في تقديم الخدمات الصحية والتعليمية.
في المقابل، تسعى الحكومة الأردنية إلى تحقيق توازن عبر:
- تنظيم سوق العمل وفرض تصاريح عمل.
- دعم مشاريع التشغيل الوطني.
- التعاون مع منظمات دولية لضمان تمويل البنية التحتية المتأثرة بالهجرة.
الأردن حالة نادرة في العالم العربي، حيث لا تقتصر الهجرة على البُعد الاقتصادي، بل تتداخل فيها الأبعاد الإنسانية والسياسية والديموغرافية، ما يجعل مسألة المهاجرين قضية معقدة ومتشابكة أكثر من مجرد أرقام.
اختلاف المفهوم.. عامل أم مهاجر؟
وراء الأرقام التي تظهر نسب المهاجرين المرتفعة في دول عدة، يختبئ اختلاف جوهري في النظرة إلى المهاجر ذاته: هل هو “عامل مؤقت” يؤدي مهمة ويرحل؟ أم “مهاجر مستقر” يبني حياة جديدة في مجتمع جديد؟
في الدول العربية، لا سيما الخليجية، تأخذ الهجرة طابعًا اقتصاديًا بحتًا، حيث يُستقدم الفرد لأداء وظيفة محددة بعقد عمل، وغالبًا ما يُربط بقانون الكفالة. الإقامة هنا مؤقتة، مشروطة، وقابلة للإلغاء فور انتهاء الغرض منها. لا توجد مسارات واضحة نحو الإقامة الدائمة أو الجنسية، مهما طالت مدة الإقامة أو ولد للأجنبي أبناء على أرض البلد.
هذا النموذج خلق مجتمعات منفصلة ثقافيًا واجتماعيًا: الوافدون يعيشون في مجتمعات شبه مغلقة، وغالبًا ما يُنظر إليهم بوصفهم “ضيوفًا اقتصاديين”، لا “شركاء في المجتمع”.
في المقابل، تعتمد الدول الغربية — مثل أستراليا، كندا، ونيوزيلندا — على نموذج هجرة شامل، حيث يُعامل الوافد بوصفه مواطنًا مستقبليًا، وتُمنح له حقوق الإقامة الطويلة، والاندماج، والعمل، والتعليم، مع فتح الباب للحصول على الجنسية خلال سنوات محددة. هذا النموذج يهدف إلى بناء مجتمعات متعددة الأعراق والثقافات، تعتمد على تنوّعها لتعزيز الاقتصاد والمجال العام.
⚖️ أثر الاختلاف: أمان اجتماعي واقتصادي أم هشاشة ديموغرافية؟
هذا التباين في المفهوم يخلق آثارًا ملموسة:
- في الدول العربية:
- يشعر الوافد بعدم الاستقرار طويل الأمد.
- تعاني المجتمعات من فجوة اجتماعية وثقافية بين المواطنين والمهاجرين.
- لا تُستثمر خبرات المهاجرين في مشاريع وطنية استراتيجية.
- هشاشة في سوق العمل عند تقلبات السياسة أو الاقتصاد.
- في الدول الغربية:
- يحصل المهاجر على استقرار نفسي واجتماعي.
- ترتفع فرص الاندماج والمساهمة في الحياة العامة.
- تبني الدولة رأس مال بشري متجدد.
- لكن قد تنشأ تحديات في الهوية الوطنية والتماسك الثقافي.
في المحصلة، يُظهر هذا التباين أن الهجرة ليست مجرد قضية أرقام، بل رؤية مجتمعية طويلة الأمد: هل نريد عمالًا يأتون ويرحلون؟ أم نرحّب ببشر يشاركوننا بناء المستقبل؟
الخاتمة: الهجرة بين الاقتصاد والهوية..
تكشف البيانات أن العالم ينقسم إلى نمطين رئيسيين في التعامل مع الهجرة: دول ترى المهاجر كعامل مؤقت يُسهم في عجلة الاقتصاد، ودول ترى فيه مستوطنًا محتملًا وشريكًا في المستقبل. وفي هذا الانقسام، تبرز الدول العربية — وعلى رأسها الخليجية — كنموذج فريد: أرقام ضخمة من الوافدين، اقتصاد يعتمد عليهم بشكل شبه كامل، لكن دون منحهم مسارات استقرار حقيقية.
ورغم ما حققته هذه الدول من نهضة عمرانية وتنموية سريعة بفضل العمالة الأجنبية، إلا أن استمرار هذا النموذج يطرح تساؤلات صعبة: إلى متى يمكن الحفاظ على هذا التوازن السكاني غير الطبيعي؟ وماذا يحدث لو غابت هذه العمالة فجأة؟ وكيف يمكن تحقيق الاستقرار دون إدماج فعلي؟
في المقابل، تقدم الدول الغربية تجربة مختلفة، لها مزاياها وتحدياتها: نعم، هناك استقرار وأمان اجتماعي للمهاجرين، لكن هناك أيضًا تحديات في إدارة التنوع والتماسك المجتمعي، وسط تزايد النقاشات حول الهوية والاندماج.
يبقى أن الهجرة ظاهرة معقدة ومتشابكة، لا تُفهم بالأرقام وحدها، بل بالسياسات، والتجارب، والنيات المستقبلية. وفي عالم مضطرب بالتحولات السياسية والاقتصادية، تبرز الحاجة إلى نماذج جديدة للهجرة توازن بين الحقوق والواجبات، وبين الاحتياج الاقتصادي والعدالة الإنسانية.
الأسئلة المطروحة اليوم لا تخص المهاجر فقط، بل تخص الدول نفسها: كيف نعرّف المهاجر؟ وما الدور الذي نمنحه له في قصة المجتمع؟